آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:01 م

عباس علي آل حسين أيقونة الزمن الجميل

عبد العظيم شلي

“السلام عليكم أستاذنا الأنيق عبد العظيم، عيدكم مبارك، كيف حالكم، لقد اطلعنا على مقال لكم بعنوان“فرحة شباب تاروت”، وتم ذكر شخصية وهي الأخ عباس آل حسين أبو فاضل حفظه الله، والدور الذي قام به في دمج الناديين تحت شعار واحد، ولكن السؤال هنا يا أستاذنا العزيز؛ لقد ذكرتم في المقال «الرسام عباس آل حسين»، فهل فعلا كان الرجل رساما؟

لأننا من خلقنا ونحن نعلم أن أخاه الأستاذ عبد الله آل حسين هو رسام ومعلم للتربية الفنية فهل ممكن أن يكون هناك خطأ مطبعي في المقال؟ وشكراً لكم.

هذه رسالة وصلتني ظهر هذا اليوم، وكنت بصدد الرد على التساؤل بشكل خاص وبصورة مقتضبة، لكني ارتأيت أن يكون الرد عبر مقال ينشر، يقرؤه الكل ويطلع عليه الجميع وتتعرف عليه الأجيال الحالية واللاحقة كأمانة تاريخية.

وحسبما أبلغت بأن الاستفسار دار حوله جدل، ضمن قروب مشترك وهنا سوف أرد بصيغة الجمع.

بداية، أيها الأعزاء وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أسعد الله أيامكم بكل خير، تهنئة عطرة بمناسبة عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعليكم باليُمن والبركات وجعل الله أيامكم كلها أفراح ومسرات.

أعزائي سوف أجيب عن تساؤلكم بترحاب بالغ وبسعادة غامرة، سوف أفتح شيئاً من ذاكرتي وأستحضر مشاهد وصورا لزمن كنت شاهداً عليه.

حينما أتحدث عن أبي فاضل، الأخ العزيز عباس على آل حسين، فأنا أتحدث عن من؟ أتحدث عن معلمي وعن أستاذي، عن مثلي الأعلى في الفن، حينما كنت صبياً، وأنا ابن 9 سنوات رأيته في مقر نادي المنار سنة 1969 م، وهو يخط ويرسم بجوار أخيه عبدالله لافتات بمناسبة عيد الفطر المبارك، وقفت مذهولاً مع مجموعة من المتجمهرين أواخر عصريات شهر رمضان 1389 هجرية، رأيت خفة يديه، تأملته بتعجب والدهشة تتملكني، وكأن ماساً كهربائياً أصاب جسمي، قشعريرة سرت في دمي، كيف تطاوعه يداه في رسم الورود ومنحنيات الأغصان، فيغمس اللون وتتوالى الأشكال الفرايحية.

تساؤل وراء تساؤل وحواسي مشدودة، كيف يحوّل الحروف والأوراق وكأنهما نبتت من خيوط القماشة البيضاء، تدب فيها الحياة بألوان نظرة مبهجة، رسومات في أسفل القماشة من أنامل أخيه عبد الله وهي عبارة عن شخصيات المسلسل الرمضاني اللبناني «أبو الفتح الاسكندري - باللغة العربية الفصحى»، علقت القماشة الطويلة على شرفة النادي المطل على السوق، نادي المنار بتاروت يهنئكم بعيد الفطر السعيد، وكل عام وأنتم بخير، ظلال الخطوط وتدرج الألوان تجلبان السعادة والمسرة.

سروري تواصل بعد انقضاء أيام العيد ثم انقلب لحيرة وأسى، حينما رأيت عباس عابس الوجه مسربل بالحزن، وهو يعلق لوحتين مرة باسم نادي تاروت وبعد أيام يستبدلمها باسم نادي الساحل، هي محاولة يائسة منه لإحياء جثة المنار المسجى في سوق تاروت، أثاث النادي ذهب لجمعية تاروت، لقد هجر مقر النادي للأبد وأطفئت أنوار مجده، كانت لوحتا عباس الخطيتان فارغتين من الدلالة، كمن يثبت الوهم على الشرفة الخشبية «المحجر»، عنوان يقرأ في اللافراغ، نحو اللاشيء، انتظار من يا عباس؟ انتظار ما لا ينتظر!! لقد رحل القوم إدارة وأعضاء وغادرت الجماهير ملفاها، ترك المقر مقفرا، تنعق فيه طيور الوحشة وكل الغرف خاوية، أيام وسرعان ما اختفت هاتان اللوحتان ومصيرهما إلى المجهول، يد الخوف أزالتهما من على الشرفة، تلك برهة من الزمن كان الظل شبحاً والنهار ظلاماً.

عند مطلع 1971 رأيت لوحة كبيرة بمساحة «شيتة كاملة بالمقاس الكبير، 2,44×1,44» في نادي النصر، تمثل مبنى تراثياً تحيط به غابة من النخيل وبقعة ماء «عانة» تحتل حيزاً في صدر المنظر الذي يمثل نخل الوزارة الواقع بين تاروت وسنابس، بإمضاء الرسام عباس

علي آل حسين. لوحة كانت حديث الناس، هنا دبّت الغيرة وظنونها لدى إدارة وأعضاء نادي النسر، خاطبه الرئيس عبد الحسين زمزم بأن يرسم لهم لوحات أسوة بنادي النصر، استجاب عباس على الرحب والسعة، لقد رسم عباس 3 لوحات خشبية في باحة مبنى نادي النسر، وأيضاً رسم حركة لاعبين متقابلين على الجدار وبينهما كرة تعلوهما عبارة نادي النسر الرياضي بتاروت ثم حولت لاحقاً باسم الهدى، وعن اللوحات التي رسمها للنسر، تمثل مناظر طبيعية ذات بيئة غربية، جبال مكللة

بالثلوج، ينحدر منها شلال، وأخرى تصطف فيها أشجار، والثالثة جداول ماء، وغيوم وطيور سابحة في السماء.

وهذه اللوحات تحديداً رأيت عباس فعلياً يرسمها أمامي وتحت أنظار عيون أعضاء النادي، ”يعني لايف على الهواء“، أنامله تتفنن في الهواء الطلق «فوق الصدح»، رسم بالألوان مباشرة دون تخطيط مسبق، يده تغمس الفرشاة بكل جرأة في علب الألوان الأساسية، الموضوعة أمامه، اللون الأزرق والأصفر والأحمر وأيضاً اللونان المحايدان الأبيض والأسود، مجموعة“قواطي صبغ”جاهزة من محلات، الحاج علي بن جاسم آل مطر، علب مغلفة بورق أصفر، حجمها بمساحة كف اليد وأخرى أصغر، مرسوم عليها بلتة سوداء، تتوسطها كلمة صفراء مكتوب عليها «Draw»، يد عباس تمزج الألوان من كل علبة، يأتي بالبنيات والأخضرات، وتدرجات الأزرق والفيروزي، هو يميل برأسه يميناً وتارة شمالاً ليوازن عناصر المنظر إيقاعاً منتظماً، يرسم دون الاعتماد على صورة أو الاتكاء على تخطيط اسكتش محضر، بالفعل لديه تمكن ومقدرة وجرأة عالية في الرسم ومن دون تردد أو شطب أو مسح.

وعن هذه اللوحات كنت أمسك إحدى طرفيها للفنان كي لا تنزلق ناحية الجانب الأيمن من كثرة تحريكه للفرشاة والضرب بها لوناً على السطح الخشبي، في الجانب الأيسر يمسك به الأخ عبد الرؤوف الرويعي، وهو يقهقه ويسترسل بالنكت ويجول حديثاً عن الفروقات بين الأخوين عباس وعبد الله رسماً وفناً.

كنت أستمتع بالوقت واقفاً دون تعب مأخوذاً بما يفعله عباس من فن، تعلمت منه عملية توليف عناصر اللوحة، وأطير من الفرح حين يأمرني عباس بأن أحضر له بقايا القماش لتنظيف الفرش أثناء رسمه، وبلهجته الهادئة يقول لي:“تقدر تروح إلى دكان حچي رضي الشايب، وتلملم من عند بابه بقايا قطع القماش لتنظيف الفرش”- النداف الوحيد المتواجد في سوق تاروت.

كنت أركض كالريح، ومرة انقطع شسع نعلي وتركت فردة حذاء ”الزنوبة“ في الطريق غير مبالٍ، ألهث وأنا أجمع بقايا القماش لأرجع مسرعاً حتى لا تفوتني أي حركة أو مهارة فنية يسجلها في فضاء اللوحة.

لقد أكمل عباس إنجاز ثلاث لوحات بمساحة نصف“شيت”، في غضون أقل من أسبوع، وحين علقت، تباهى أعضاء وجماهير نادي النسر بتزيين مقرهم الذي كان خاوياً من أي أثر للجمال سوى صحف حائطية، وأيضاً علقت بجانب لوحات عباس منظر طبيعي مستوحاة من مدينة شيراز الإيرانية للرسام والمصور الفوتوغرافي الفذ نور الدين الشيوخ، وهذا فنان يداه ساحرة وكان منزله الكائن بالديرة بمثابة الگالري للوحاته.

كنت أرى عباس إنسانا عظيما، أراه بمنظوري عبقريا، إذ كيف يشكل مساحة لوحة خشبية بنية اللون جرداء ويحولها في غضون ساعة أو ساعتين إلى منظر خلاب تدب فيها الحياة، وتهيم فيها طيور المهارة وتحلق الألوان والخطوط عبر فضاءات اللوحة.

كنت أنظر إلى عباس باندهاش أثناء الرسم، أتمعنه بانبهار، وكم حدثت نفسي ليتني أكون مثله، كنت أحب عباس، أحبه لأن الناس تناديه عباس الرسام، يرسم لكلا الناديين «النسر والنصر» في آن، عباس علمني من حيث لا يشعر وبطريق غير مباشرة، مهارة الرسم بالألوان، واكتسبت منه الجرأة التي استخدمتها فيما بعد في رسم خلفيات حفلات نادي الهدى مع العزيز جاسم الصايغ، عباس عرفني بجمالية الفن منذ كنت صغيراً.

الكلام عن أبي فاضل يطول ومعه تحلو الذكريات، التحدث عن هذه الشخصية المخضرمة تفيض بالشجن، وإجمالاً كم يستحق منا هذا الرجل الذي واكب الأندية العريقة، ولم تعرفه الأجيال اللاحقة ولم تدرك حجم قدره، منا له وافر الاحترام بمساحة تكريم وجل تقدير.

ماذا أقول بعد عن شخصية فنية ورياضية واجتماعية لها أثرها الخاص بالنسبة لي والعام نحو المجتمع.

هو أثر في سنوات تكويني الأولى، وفي النطاق الأوسع خدم المجتمع ولا سيما الأندية القديمة، مروراً بنادي الوحدة ثم المنار والغريمان المتحدان النسر والنصر، وانتهاءً بالهدى اتحادا وتسجيلا طوال عقد السبعينات الميلادية.

أعزائي الكرام:

شخصية عباس ثرية ومتعددة مع أخيه عبد الله، وهو أستاذي الثاني بعد عباس، كلاهما فنانان، تبادلا الأدوار في التأثير على ذائقتي الفنية، هما أقاما معرضاً متنقلاً في تجميل الأندية القديمة بلوحاتهما، وقد تحدثت عنهما في أكثر من موقع، وكتبت عن مسيرة الفن التشكيلي في تاروت ودورهما المؤثر في رسم معالمه الأولى، ضمن كتاب احتفالية نادي الهدى بمناسبة مرور 25 سنة على تسجيله.

أعزائي هناك عدة صور ومواقف عديدة تمور بالذاكرة، مشاهد عزيزة على نفسي أحملها بين جوانحي عن عباس الفنان وعن أخيه وغيرهما أيضاً.

نعم يا أحبابي يا من لم تدركوا زمن عباس علي آل حسين، هو لاعب كرة قدم قلب دفاع، وهو لاعب تنس وطائرة، ورسام وخطاط، وليس إشارتي إلى شخصه الكريم بعابرة في مقالي“فرحة شباب تاروت”، لم تكن خطأ مطبعياً كم يتبادر إلى الأذهان، عباس من أوائل الرسامين في جزيرة تاروت ضمن مجموعة كانت بارزة، الأستاذ عبداله فسيل، والأستاذ عبدالله الجشي، وسعيد المياد ونور الدين الشيوخ والخطاط منصور إسماعيل وحبيب حمود وعبدالله علي آل حسين، وحيدر محمد صالح، ثم أتى بعدهم، جاسم الصايغ ومحمد المصلي ومحمد الدرازي.

ثمة عبارة أعيدها تأكيداً وامتناناً، وأعيدها مرة ثانية ورابعة وألف مرة، يوم كنت صغيراً، كنت أحدث نفسي متى أصير مثل الفنان عباس علي آل حسين!

نعم أبو فاضل كان رساماً وخطاطاً بارزاً، وهو من تنبأ ببزوغي الفني، بل شجعني كثيراً وأثنى على أعمالي المبكرة، ولا تزال جملته الشهيرة ترن في أذني إلى اليوم وغداً وإلى آخر نفس في حياتي، حينما قال إلى المرحوم الأستاذ الفنان عبد الله مهدي الجشي بفخر واعتزاز أثناء التجهيز لمعرض نادي الهدى بتاروت 1976- 1396 «عبد العظيم فنان قادم، إنه ولادة نجم جديد في تاروت».

كانت هذه شهادة معنوية تركت أثراً بالغاً في نفسي ووجداني، حينها كان عمري 16 ربيعاً، كلماته كانت محفزة، وصادقة وأمينة ومخلصة.

كما أنا مدين لعباس وأيضاً لأخيه عبد الله والذي هو الآخر أخذ بيدي نحو معارض رعاية الشباب منذ أوائل انطلاقتها وعرفني نحو المجتمع الفني الأوسع والأرحب، وأيضاً مدين لكل فناني البلد الذين ذكرت أسماؤهم، ومدين لكل المؤثرين في مسيرتي التشكيلية.

أعزائي:

الكتابة عن عباس حق وواجب نظير ما قدمه للبلد وللأندية، واستحضار جهوده هنا وهناك عبر مقالات متفرقة، هي لحظات وفاء نظير عطاءاته، وأيضاً لعلها تبدد مشهداً موجعاً يعرفه من عاش ذلك الزمن، موقف مؤلم، تعرض له أبو فاضل عام 1979، نتيجة حملة غير مبررة، أتت من مجموعة أعضاء أساءت الفهم له ولأخيه وكل أفراد أول إدارة قادت نادي الهدى بعد التسجيل رسمياً، والمعروفة بإدارة المرزوق وأبو مدين، التي كان حلمها إلا بعد إقامة مشاريع كبرى للنادي.

أتتهم مجموعة أعضاء لم تحسن الظن بهم ولم تكن صائبة في نظرتها واستنتاجاتها وتحليلاتها، ولم تزن الأمور بحكمة وتحكيم عقل، عموماً حدث ما حدث ولن أوغل كثيراً لكي لا أفتح جراحات الأمس، أعرف تفصيلات ذاك التحول الحساس دقة وتفصيلاً وأتحفظ عن الخوض فيه بشكل أوسع، وفي ذات الوقت ألتمس العذر لكل الجانبين ولست مع هؤلاء ضد هؤلاء أو العكس، وهنا أقول كلمة صدق لمن يقدم خدمات جليلة للناس ومن دون مقابل أن يدعها صوب الله، وأن يتجاوز الملامة والعتب التي تتردد، ولا ينظر البتة لعبارة، ما أصعب على النفس أن تضحي وتبذل الغالي والنفيس ثم تقابل بالنسيان، هناك المنصفون الذين يقدرونكم، هناك من سيذكركم ولو بعد حين.

اعرف قلبك يا عباس نابض بالحب متجاوزاً للمحن ممتلئاً بالتسامح، كم أنت عطوف يا أبا فاضل ومتصالح مع الجميع وقد خدمت الجميع عن طيب خاطر وبك نعتز ونفاخر عن حق واستحقاق.

إن أردتم يا أعزائي يا من وجهتم لي السؤال وأردتم مني التوضيح، لقد وضحت ما تيسر لي حسب السطور التي تتوالى من غير لا أحتسب، شكرا لكم بأنكم استثرتم قريحتي حول أبي فاضل الإنسان الفاضل بكل ما في الكلمة من معنى، عباس هو تاريخ منتصب أمامكم وكتاب مفتوح وصدره رحب، اسألوه فلديه الكثير حول مسيرة الأندية القديمة وما حدث فيها وعن اللاعبين وتحولات عالم الكرة في جزيرة تاروت، دعوا عباس يتحدث أمامكم سوف تسمعون أشياءً وأشياء، ستجدون ذاكرة متنقلة بين الفن والرياضة وأحوال المجتمع.

سلامي لكم أيها الأعزاء يا من تتساءلون: هل عباس كان رساماً وخطاطاً؟! أنتم أيها الإخوة معذورون لأنكم لم تشهدوا زمنه.

عباس علي آل حسين كان أيقونة الزمن الجميل، شكل جزءاً كبيراً من نسيج أيامه خطاً ورسماً، فنه تألق في العيون ردحاً من الزمن، لم تزل الذاكرة تتغنى بمواويل ألوانه وإيقاعات خطوطه.

لك منا يا أبا فاضل طول العمر بصحة وعافية، وكل عام وأنت بألف خير.