آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

حول الإجماع الوطني

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

جادلت في مقال الأسبوع الماضي، بأن معظم النزاعات الدائرة في محيطنا، نتاجٌ لأمراض في البنية الاجتماعية والسياسية، فتحت الباب للأيادي الأجنبية للتأثير في الشأن الوطني.

يهمني الإشارة أولاً إلى أن المجتمعات والأوطان، ليست كائنات مادية بحتة، بل هي في المقام الأول كائناتٌ اعتبارية، بمعنى أن ما يعطيها صفة المجتمع أو الوطن ليس الأرض أو المباني، بل إقرار البشر الذين يسكنونها بأنها تحمل هذا الاسم وتنتمي لهذه الجماعة، وأن سكانها يعيشون معاً في إطار اتفاق «ضمني أو مكتوب» تضمن استمرارَه ثقةٌ متبادلة، محورُها أن جميع الأطراف يسعوْن لخيرهم المشترك، ويلتزمون بالمسؤوليات التي يولدها ذلك الاتفاق.

ولعل القراء الأعزاء يذكرون الصور التي تنشرها الصحف أحياناً، عن قرى يقسمها خط الحدود بين دولتين، نظير قرية بارلي ناسو التي يقع نصفها في هولندا والنصف الآخر في بلجيكا، ومثلها قرية لاكيور التي تقتسمها فرنسا وسويسرا. فهذه القرى وأمثالها تسكنها عائلات متقاربة في النسب وطريقة العيش، لكن بعضها يتبع هذه الدولة، والآخر يتبع الدولة الثانية، بل قد تجد في بعض بيوتها إخوة يحمل أحدهم جنسية هذا البلد تبعاً لأمه، ويحمل الثاني جنسية البلد الآخر تبعاً لأبيه. فهذا المثال ونظائره يوضح أن المجتمعات والأوطان، بل كل اجتماع بشري، روابط اعتبارية «أي أنها موجودة وثابتة بقدر ما يعتبرها الناس كذلك». ومن هنا فإن قوة تلك الروابط وضعفها، مشروطان بمدى ترسخ الثقة والإيمان بالعلاقة الجامعة في نفوس أعضاء المجتمع أو سكان البلد.

الإيمان بالجماعة الوطنية والثقة بالنظام الذي يربط الجميع، هو أرضية ما سميناه الإجماع الوطني، الذي يتناول موضوعين رئيسيين: أ» القانون - أو العرف - الذي يحدد ويضبط العلاقة بين كل طرف والآخر. ب» الطريقة المتفق عليها لحل الخلافات المحتملة بين الشركاء، والتي يلتزم الجميع بالقبول المسبق لنتائجها.

لا يمكن أن يتعايش أناس مختلفون من دون توافق على المصالح المشتركة والحقوق المتقابلة، التي أوجبت اجتماعهم، واتفاقٍ موازٍ على طريقة لعلاج خلافاتهم، لتلافي الانشقاق والتنازع. هذا ببساطة هو جوهر «الإجماع الوطني».

تتسبب الأزمات الكبرى في نشوء ارتياب متبادل، بين الكتل التي يتألف منها المجتمع الوطني. وعندئذ تتلاشى القوة الجمعية التي تسند البناء السياسي والأمني والقانوني للبلاد، أعني بها القوة التي تتجسد في الثقة المتبادلة التي ذكرناها، وفي توافق كافة المواطنين على أن يعيشوا معاً في ظل نظام قانوني واحد، اسمه الوطن، وأنهم جميعاً يتحملون المسؤولية عن صيانته.

انظر إلى مثال أفغانستان أو ليبيا في الوقت الحاضر. سوف تجد أن المشكلة في كلتا الحالتين هي انعدام الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع. انعدام الثقة يعني - حسب تعبير البروفسور ديفيد ميلر - أن كل طرف يشعر في داخله بأنه لو تخلى عن مصادر قوته الخاصة أو تنازل للطرف الثاني، فمن يضمن له أن يحصل على حقوقه المتفق عليها في القانون؟

لا يوجد حل طويل الأمد للمشكلات، ولا سد يحمي البلد من تأثير القوى الأجنبية سوى بناء الثقة وتجديد الثقة باستمرار، وهي مهمة سهلة بشرطين؛ أولهما ألا ينظر للسلطة كغنيمة، بل كوظيفة مؤقتة، وثانيهما أن يكون كل طرف مستعداً لتقديم تنازلات، تتناسب حجماً وموضوعاً مع الغاية المستهدفة، حتى لو كانت مؤلمة.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.