آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:25 ص

الانفتاح الحداثي وضمير المحافظة في قصة «ستائر لا يبللها ماء» لحسن علي البطران

فاطمة الزغول صحيفة الدستور الأردنية

شهد العالم منذ مطلع القرن العشرين انفتاحاً سسيولوجياً منعكساً عن تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، أثّر في منظومة القيم والمبادئ الإكسيولوجية والدينية للأسرة، فانفتحت على مجريات الحداثة بما فيها من سلوكاتنا في مع الموروث الحضاري والعقائدي لهذه الأسرة، وشعرت بانعكاسات هذا الانفتاح السلبية والإيجابية، ما ولد لديها صراعاً بين الرغبة في مواكبة العصر بما فيه من تغيرات، وبين ضمير المحافظة على القيم السلوكية الموروثة.

تأثر المجتمع العربي بما تأثرت به بقية المجتمعات العالمية من انفتاح وتغيرات في السلوك الفردي والجماعي، فابتعدت المجتمعات عن عاداتها المرتبطة بالموروث الحضاري في الجوانب السلوكية والمظهرية شيئاً فشيئاً، وأصبحت الملابس التي يتميز بها شعب من الشعوب عن غيره تُعرض في معارض التراث، فالأزياء العالمية أصبحت هي السائدة، وتقلصت حواجز الخصوصية، وانقسم الناس بين معارض للانفتاح ومتمسك بالتراث، وبين مرحب به وبمظاهره.

تُجسد العديد من النصوص الأدبية بأجناسها المختلفة الواقع الإكسيولوجي الحداثي للمجتمعات، وما يعتريها من صراعات نفسية وسلوكية تجاه مستجدات العولمة والانفتاح، فالأدب عين على الواقع، تلتقط صوره بشفافية، وتبرزها مؤطرة بإطار اللغة الجمالي الذي يزاوج بينفلسفة الوجود، وتصورات الخيال، ومن أبرز الأجناس الأدبية الحديثة التي تتجسد فيها مفارقات الوجود الإنساني بما فيه من صراعات، القصة القصيرة جداً، ذلك الجنس الأدبي النثري المبني على التكثيف، والحكائية، والمفارقة، والوحدة الموضوعية، وفعلية الجملة، كما يمتاز بعناصر الإدهاش، والسخرية، والرمزية، والتتابع في الأحداث وتسارعها.. إلى غير ذلك من العناصر الجمالية.

ومن بين أبرز كتّاب القصة القصيرة جداً في الوطن العربي الذين تعددت إصداراتهم في هذا المجال، الكاتب السعودي حسن علي البطران الذي وصلت إصداراته إلى عشرة إصدارات، تناولت مواضيع مختلفة، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، كما امتاز أسلوبه بالرمزية، ووضوح المفارقات، والسخرية المبطنة، ومن أهم إصداراته: «نزف من تحت الرمال»، و«دانة»، و«ماء البحر لا يخلو من ملح»، «وسماوات لا تنبت أشجاراً»، و«ماريا وربع من الدائرة»، و«ناهدات ديسمبر»... وغيرها.

ومن قصص حسن البطران التي تجسد الصراع بين الانفتاح وبين الضمير المحافظ، قصة: «ستائر لا يبللها ماء» التي تناولتها هذه المقاربة الميكروسردية لإبراز ما فيها من مفارقات حول هذا الصراع.

«ستائر لا يبللها ماء»

أزاح الستارة عن النافذة

وتسللت خيوط الضوء من خلالها،

تساقط المطر، صحا الطفل، غمر الماء فناء الغرفة،

بكت الزوجة حينما رأت مناكيرها تقاوم الغرق؛

والستائر لم يبللها الماء.!

استهل البطران قصته القصيرة جداً بعنوان مركب يتشكل من جملة خبرية تحمل رمزية تثير فضول المتلقي لقراءة القصة، وكشف ملابسات الحدث «ستائر لا يبللها ماء»، فالستائر تحمل رمزية الحاجز الذي يحجب المؤثرات الخارجية عن الداخل، لكنها في هذا النص لا تتأثر بالبلل رغم وجود الماء، ما يثير الدهشة والفضول لدى المتلقي.

بدأت القصة بالفعل الماضي أزاح الذي يعبر عن حدث حركي فاعله مستتر، فالحدث هو المهم، وهذا الفعل وقع على الستارة التي تغطي النافذة، فالستارة حاجز يحجب المؤثرات الخارجية، والنافذة حاجز مرن شفاف يسمح بنفاذها، وهذا ما ظهر في العبارة الفعلية التي تليها، والتي استخدم فيها البطران الفعل تسللت، فالدخول خفي وبطيء يدخل بطريقة سلسة لا تثير الانتباه مباشرة، إلا بما تتركه من أثر، فخيوط الضوء وجدت منفذاً للتسلل من خلاله بعد إزالة الحاجز المانع «الستارة»، وبدأت بالانتشار في المكان، محدثة أثراً بارزاً، ثم يتبع الحدث التالي بتساقط المطر الذي يزيد من عوامل التغيير، هذا التغيير الذي جاء من الأعلى إلى الأسفل بصورة متتابعة بدلالة الفعل «تساقط» الذي يحمل دلالة التتابع الحركي الحدثي، فالأفعال الماضية تسير سيراً ديناميكياً متتابعاً ومتسارعاً، تتصاعد فيه حدة الأفعال من حدث التسلل إلى حدث التساقط، ما يوحي بالقوة والسرعة.

تصل الأحداث السردية في قصة «ستائر لايبللها ماء» إلى حبكتها في عبارة «صحا الطفل»، فالفعل صحا يحمل دلالة التنبه بعد الانغماس في الغفلة، والطفل الذي صحا يرمز إلى الفطرة والضمير الإنساني الذي يغفل حينا نتيجة المؤثرات الخارجية، ثم يصحو نتيجة الفطرة السليمة في النفس البشرية التي تستطيع تقييم السلوك ومؤثراته السلبية، بما أودعه الله فيها من سمات، ومن هنا يبدأ الصراع داخل النفس الإنسانية التي لم تشعر بخطورة التغيير الذي تسلل إليها؛ إلا حينما عمت آثارهالمكان، وانتشرت بشكل واسع يصعب تلافيه.

تتوالى الأفعال الماضية المعبرة عن تتابع الأحداث وتسارعها، فالصحوة جاءت بعد غمر الماء لفناء الغرفة، ما يوحي بفوات الأوان، والانغماس في مؤثرات الانفتاح، بما لا يتيح المجال للتراجع، ويتأكد حدوث هذا الصراع في بكاء الزوجة التي تقاوم معطيات الانفتاح، فكلمة «مناكيرها» التي تعبر عن مادة ملونه تُطلى بها الأظافر للزينة والتغيير، والتي استخدمها البطران باللفظ الأعجمي، ولم يستخدم بدل منها «طلاء الأظافر» لتكون أكثر تعبيراً عن الانفتاح، والتأثر بالثقافات الأخرى، فهذا الطلاءمن منتجات الحداثة رمز به البطران إلى السلوك الانفتاحي بتغيير الشكل سواء باستخدام المساحيق، أو عمليات التجميل التي انتشرت بشكل واسع فيالمجتمعات الحديثة، ولفظة الغرق تشير إلى حدث الانغماس في الانفتاح، ومقاومة الغرق تبرز مقاومة هذا الانغماس التي رافقت الصحوة، فبكاء الزوجة يمثلالصراع القائم بين نوازع السلوك المحافظ الموروث، وبين الانغماس في التقليد الأعمى باسم الانفتاح.

تتوقف أحداث القصة على النهاية الصادمة والمفتوحة، فما يبكي الزوجة ليس فقط مقاومة مناكيرها للغرق، وإنما بقاء الستائر التي سمحت بدخول مظاهر الانفتاح على حالها دون تأثر، فهي لم يبللها الماء الذي غمر فناء الغرفة، وأدى إلى غرق مناكيرها، كناية عن بقاء هذه المقومات الانفتاحية، بما يزيد من صعوبة مقاومتها، ومن تفاقم الصراع النفسي عند الزوجة التي شعرت بالخطر «مقاومة الغرق» والشعور بضعف المقاومة مع بقاء المؤثرات التي فتحت الطريق للانفتاح إلى أن تمكن من السيطرة التي رمز إليها البطران بالماء الذي غمر المكان، فالماء هو مصدر الحياة ومن أهم مقوماتها، وفي المقابل هو مصدر الغرق الخانق والقاتل، ما يشير إلى جوانب الانفتاح السلبية والإيجابية في آن واحد.

وظف البطران عناصر البلاغة من مجاز وكناية، واستخدم الإيحاءات الرمزية، والمفارقات، وتتالي الأفعال التي اختارها بعناية لتعطي الدلالة المناسبة لما وراء المعنى الظاهري، ففي بداية الأحداث استخدم الأفعال الماضية بصورة متعاقبة، ثم وظّف دلالة الحاضر والمستقبل في الفعلين «تقاوم، ولم يبللها» بما يوحي باستمرارية الحال والصراع القائم، كما استخدم الرموز الدلالية بمهارة عالية اختار فيها الكلمات بعناية لتعطي المعنى المرادبفنية عالية، كاستخدام الماء والغرق، للتعبير عن الخير والشر، واستخدام الفعل تساقط وغمر، للإيحاء بتعدد اتجاهات التأثير من كل الجوانب الأعلى والأسفل.

استطاع البطران في هذه القصة القصيرة جداً استلهام الواقع الإكسيولوجي للصراع الحداثي للمجتمعات، بين الرغبة في الانفتاح على الحضارة والتطور، وبين صحوة الضمير تجاه القيم والأخلاق والعادات، والموروث الحضاري، والذي لا زال قائماً، فوظف عناصر المكان والزمان والشخصيات، واللغة السردية المكثفة، في وحدة موضوعية قوامها التسلسل والترابط والتتابع في الأحداث.