آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

حراس الغفلة والوصاية على الذاكرة

أثير السادة *

هناك في هذا العالم من يشعر أنه يملك وصاية على التاريخ، فإذا ما تقدم أحد بدراسة تاريخية عن مكان ما، راح يرفع راية الحرب، ويعلن بأنه صاحب القوامة على ذاكرة المكان، ولا يصح من التاريخ إلا ما صححته رغباته وأمنياته، وهذا الوصي الشرعي قد يكون أديباً، وقد يكون مسئولاً رسمياً، وقد يكون شخصاً به عقد نقص واعتلالات في هويته تجعل منه يخاف حتى من ظل باحث يعبر من أمامه.

التاريخ الذي وصلنا في صورة مرويات، ووثائق، وكتب صاغها أهلها بمزاجهم، ومزاج عصرهم، هو بحاجة دائماً إلى عمليات تنقيب، وترميم، وإعادة تأهيل، فإذا كنا نرى التزوير اليومي للواقع الذي نحياه، في مرأى منا ومسمع، فكيف بتاريخ حافل بالصراعات والتحولات، ومختلف أشكال الوصايات التي يحاول البعض إعادة انتاجها في سبيل الحفاظ على تصوراته عن نفسه وتاريخه.

هذه الريبة المستمرة لدى الممارسين لدور الوصي على الذاكرة تجاه أي أطروحة تاريخية مغايرة تكشف عن خلل ثقافي بالدرجة الأولى، وسلوك مرضي في تعبيرهم عن علاقتهم بالمكان وهويته، وبالتالي يحملنا إلى الاعتقاد بالتكوين الهش لهذه الهوية التي ترى في كل قول أو فعل يطال ذاكرة المكان نوعاً من التهديد الوجودي، فيما سيكون رد الفعل غالباً هو في التشديد على حضور المكان بعيداً في عمق التاريخ، وعلى فرد الدفاتر لكتابة المزيد عن امتيازاته واسطوريته وكل القصص التي يركن لها الناس في لحظة اندفاعها العاطفي لتشكيل صورة عن أماكنها.

ما يريده حراس الذاكرة أن يظل التاريخ المختوم للمكان خارج دائرة المراجعة، لكي لا يخسر شيئاً من بريقه، ومن قوته التي تكفل الحفاظ على تماسك الهوية المكانية، يريدون من التاريخ فقط ما يعيد موضعتهم على خط الوجود الانساني، ويذكر العالم بفحولتهم، وبطولاتهم، وكل الأوسمة التي توزع بالمجان، ليبقى تاريخ المكان ”متفق عليه“ و”لا يختلف عليه اثنان“، حتى لو كان تاريخاً يتعكز الأوهام والخيالات والخرافة.

نحن اليوم بحاجة إلى سرديات جديدة للتاريخ، أن نستثمر في كل منهج تاريخي جديد، وكل وثيقة مستجدة، وأن ننوع في طريقة مقاربتنا للماضي، علينا أن نقبل الجرح والتعديل لذاكرتنا التي تأسست على شفاهيات، ومرويات، لا تكفي لبناء صرح متين، وأن نتخلى عن منهج التبجيل والتهويل، حتى نتخلص قدر الإمكان من إضافات الزيف، ونصل إلى حدود العلم بالأشياء والأحداث التي مرت، فالقوة للبحث العلمي والمنهجي وليست لمنطق الاستقواء والوشاية والبحث عن نوافذ للشكاية!.