آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

ديوانُ شعرٍ ملؤهُ غزلُ

حسين الخليفة

- وأخيراً التقينا بعد طول غياب

- التقينا

" وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا "

- إي والله، وصدقت فيما استشهدتَ به..، ولكيلا أنسى، عندي مقالة جديدة في طور الإعداد وأحب أن أعرف رأيك فيما بين القوسين أعلاه في ورقتي هذه، أجعلُه عنوان مقالتي الجديدة فما رأيك؟

- جوابي أن أكمل وأقول:

”... بين العذارى باتَ يَنتقِلُ“

- لله درك لا تفوتك فائتة وسهمك لا يخطئ في إصابة شوارد الشعر والأدب..!

- وبأي أدب أظفر إن فاتتني قصيدة انضم بسببها السياب إلى عالم الشهرة البهيج.

- لكنها قصيدة تنتمي إلى شعر الشطرين، وقد عُرِف السياب حين بدأ ينظم شعر التفعيلة، حتى لُقِّب بلقب «رائد الشعر الحر» كما يعبرون ومن خلال هذه الزاوية كانت شهرته كما أعرف..

- هذا صحيح في ضوء الإطار الذي ذكرت، بيد أني أرى أن السياب شاعر أصيل يمتلك صوته الخاص قبل أن يخوض مضمار شعر التفعيلة، وإذا رجعت إلى تراث الجواهري النثري، ستجده يشيد بشعرية السياب مثلما كان السياب يشيد بشعرية الجواهري ويعترف له بالأستاذية...

- أراك سكت، ويبدو من ملامح وجهك أنك تريد أن تتابع وتضيف شيئًا إلى كلامك السابق.

- نعم أريد أن أستبق سؤالاً أتوقعه منك وأتحضر للإجابة عن سؤالك المتوقع فأقول لك:

إن الأصالة الشعرية تكمن في أن يحقق الشاعر صوته الخاص، ولا مدخلية للشكل الكتابي في تحقيق ذلك.. ألا ترى معي أن كثيراً من الشعراء حين صار السياب يبدع قصيدته على الشكل الجديد، قد انخرطوا في النظم على طريقة شعر التفعيلة، حتى إن بعضهم قد هجر شعر الشطرين وطلَّقه بالثلاث، ومن هؤلاء من سخر منه وسماه ب «شعر أبو سايدين» تشبيهاً بالشارع ذي المسارين..!

ههه، لكن ما النتيجة يا صديقي؟

- هههه، ما النتيجة؟

- النتيجة أن الأسماء الكثيرة التي ركبت تيار شعر التفعيلة وقتذاك قد ذابت كما يذوب الملح في الطعام؛ ذلك لأنها لم تستطع أن تمتلك الصوت الخاص الذي يمنحها الفرادة والنكهة اللتين بهما يكمن سر الديمومة..

وأزيدك من الشعر بيتاً، وأحيلك على الدواوين الصادرة في خضم انطلاق حركة الشعر الحر، لترى غير قليل من شعراء الشطرين ممن أدمنوا الكتابة على النمط المذكور، ولم يقدروا على إطلاق سراح قصائدهم من أسر الأوزان المنضدة والقوافي المقيِّدة، قد اضطروا إلى نثر قصائدهم «الشطرينية» وبعثرتِها على بياض صفحات الديوان وفق الترتيب الذي يراه القارئ حين تقع عيناه على قصيدة منظومة على طريقة شعر التفعيلة، ظناً منهم أنهم يواكبون الجديد، وطمعاً في تصنيفهم ضمن رواد القصيدة الحديثة إلا أن ظنونهم خابت وباءت بالفشل الذريع.

- وما سبب الخيبة وما علة الفشل الذريع؟

- إنَّ نصوصهم كانت تشبه الدمى البلاستيكية وهي كالجسد المسجى على دكة ديوانها لا روح فيها ولا رائحة تخضع لها الأنوف، فكيف يكون لصوتها صدى وهي لا صوت لها ولا نكهة تغري بها المتذوقين.!

- لكن قصيدة التفعيلة نجحت.

- نجحت لا بسبب الشكل الجديد كما قلت لك، وإنما لكون رائدها شاعراً مبدعاً وناجحاً من الأساس.

- وكيف ستكون قصيدة النثر لو أن السياب عمد إلى توأمة ريادته وامتشق عباب بحرها؟

- سنحصل على النتيجة نفسها نفسها.

- كأنك تقلل من منسوب إبداع روادها.

- وممن استلموا منهم الراية فيما بعد أيضا؛ لأنهم نسجوا على منوال رواد مجربين لم يصلوا إلى اكتشاف سر الصنعة.

- ألك موقف سلبي من قصيدة النثر؟

- لا، ولكن مسكنة من ورثوا تركة روادها، أنهم ورثوا نصوصاً لا أصالة لها ولا نكهة فيها، وحين تكون أمثال تلك النصوص مثلاً يُحتذى وخارطة طريق الإبداع الجديد فإن النقص يتنمط والعيب يتسلسل.

- وما الحل إذا لم يكن لك موقف سلبي من قصيدة النثر؟

- الحل أن يعرض كتابها الجدد عن تمثُّل روادها أو النسج على منوال نصوصهم، وأن يُعمقوا حصيلتهم من النثر الفني الراقي في التراث، وأن يتدربوا على كتابة الجمل الغنية بالموسيقى الداخلية، وأن يحاولوا أن يكون تكثيف نصوصهم في بسطها، وأن يسع بسطُها ضيق التكثيف، وأن تكون دلالات كلماتهم في متناول العوام، وتكون محل شجار محتدم لدى الخواص.

- أحسنت وأجدت؛ فكل ما ذكرته في الحل لا شيء منه يظهر في قصيدة النثر لدى الرواد.

- وأنت من المحسنين، ولكن قل لي:

ما السبب الذي دعاك إلى اختيار شطر من قصيدة السياب ليكون عنواناً لمقالتك، ولا سيما وقد سألتني عن إبداء الرأي في اختيارك، وقد جرنا الحديث إلى ما جرنا؟

- سبحان الله..! سبحان الله..!

- سبحان الله..! وهل في سؤالي ما يبعث على العجب..؟!

- لا، إنني أعجب من فحوى الحديث الذي دار بيننا، فهو يصب في مضمون مقالتي التي جعلت من شطر ”ديوان شعر ملؤه غزل“ عنواناً لها، فمقالتي كانت تهدف إلى الإجابة أو الكشف عن سر خلود النصوص الإبداعية، وفي الوهلة الأولى جعلت العنوان «سر الخلود الإبداعي» ثم محوته بعد أن قرأت قصيدة السياب ووجدت فيها قوله:

"يا ليتني أصبحت ديواني
لأفرّ من صدر إلى ثان
قد بت من حسد أقول له:
يا ليت من تهواك تهواني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها
ولك الخلود وإنّني فان؟! "

فعنواني المستل من القصيدة يشير إلى كلمة «الخلود» في المقطع الذي ذكرته لك، وهو يتحدث عن الخلود الإبداعي المتمثل بديوان شعره، وموضوع مقالتي هو الخلود الإبداعي.

ولهذا كان تعجبي؛ فكأنك قرأت ما في داخلي، وكل حوارنا كان حول المضمون نفسه، وهذا من الصدف الجميلة الباهرة.

- إذا كان موضوعك كما قلت، فنِعْمَ العنوان المختار؛ لما فيه من عنصر تشويق وملمح إحالي ذكي يربط المفهوم بالمثال، وإني لأثني على اختيارك، وعلى تصرفك الدال على شعورك بأهمية العنوان من خلال تصرفك في المحو والتغيير واستشارتك في شأنه.. ذلك هو القلق الإيجابي الذي ينتاب نفوس المبدعين.

- أشكرك لما اسديته من ثناء على حسن اختيار العنوان.

- لم أقل غير ما يجب أن يقال جعلك الله من المبدعين اللامعين في فن المقال.

- ما أسعدني وأنت صاحبي تجود علي بالعلم والإرشاد وعلي بالدعاء أيضا تجود.!

- أستودعك الله، وأيامك كلها سعيدة إن شاء الله، وسنلتقي مرة أخرى عندما...

- عندما نظفر بنص إبداعي جديد يحمل نكهته الخاصة،

وله فرادته المشرقة،

وله طعم سر الخلود...