آخر تحديث: 13 / 5 / 2024م - 6:46 ص

العمل الاجتماعيُّ، ودعامتاه

الشيخ باقر بوخمسين *

يجب على الجمعيَّة في أيِّ أمَّة كانت أن تعمل متوافقة لغرض واحد ولهدف واحد، وهو حفظ كيان الأمَّة معنويًّا، وما به سعادتها أدبيًّا، فيجب أن يكون أعضاؤها شديدي التماثل في الغرض والعمل، ليمكِّن ارتباطهم في جماعة واحدة والقيام بعمل موحد، ليؤدُّوا رسالتهم التي من أجلها قاموا بعملهم، فأوَّل ما يجب عليهم هو التفكير أن تقوم جمعيَّتهم على دعامتين تضمن لها بهما الحياة، وتضمن لهم بهما التقدُّم في العمل.

المال والوجاهة علميًّا واجتماعيًّا، فكلُّ جمعيَّة لا تقوم على هاتين الدعامتين فهي ميِّتة في دور الرضاع؛ لذا نرى أنَّ كلَّ جمعيَّة تريد أن تؤدِّي رسالتها كما ينبغي عليها أن تهتمَّ في تقويم هاتين الدعامتين قبل أن تقوم بفتح الجمعيَّة، لتسير قدمًا عالية الرأس موفورة الكرامة.

الدعامة الأولى المال

من واجب الجمعيَّة أن تعرف الطريق الذي إذا سلكته تتمكَّن به من تحصيل وتوفير المال الذي يضمن لها البقاء، وأن يكون من طريق العزِّ والفخار حتَّى تسير قدمًا في بثِّ دعوتها لإرشاد الأمَّة، وتثقيف أبنائها، سواء كان من طريق فتح المدارس لتعليم الشباب، أو من تشكيل أنشطة لها في جهات أخرى، وإنَّ استحصال المال لها يكون من واسطة الاشتراكات العامَّة ومن طريق التبرُّعات من الذين يحبُّون انتشار العلم في البلاد، كما يتمُّ من طريق الاشتراك الشهريِّ للمنتمين إلى الجمعيَّة أو السنويِّ، كما يُستعمل في البلاد الراقية، ومن طريق الدعوات والاحتفالات التي تنظِّمها الجمعيَّة وتدعو فيها الأعيان من أبناء البلاد.

وعلى الجمعيَّة أن تتحرَّى الأوقات المناسبة التي يمكن فيها اجتماع مثل هؤلاء من الأعياد والمراسيم، فترسل الدعوات لذوي الوجاهات والكفاءات من محبِّي الخير، ليمنحوا الجمعيَّة بما تجود وتسمح به ضمائرهم خدمة للأمَّة، ويجب على الجمعيَّة أن تنوِّه بشكرهم وفضلهم ليقتدي بهم غيرهم، كما يجب عليها أن تتعرَّف كيف تصرِّف هذا المال؟ فيجب:

أوَّلًا: أن تفكِّر أن لا تنفقه إلَّا في صالح الأمَّة من بثِّ المعارف بين أفرادها، كما عليها أن تختار المحلَّ اللائق لمركزها الصالح لإقامة الاحتفالات، ومقابلة الوفود الذين يزورون الجمعيَّة التي تمثِّل البلاد وعنوان رقيِّها وتختار المحلَّ القابل لإقامة الدروس، وتلقِّي الطلاب الذين ينتمون إليها، واحتضانهم وإعدادهم للمستقبل وتهيئتهم لأن يكونوا مثالًا، وقدوة، ودرعًا لأمَّتهم، وبلادهم.

ثانيًا: أن تقدِّم جميع المحاضرات التي تُلقَى في الجمعيَّات في المناسبات الاجتماعيَّة منها والدينيَّة، والتي تلقى سواء كان من أعضائها، أو من زوَّارها، ونشر ما فيه الفائدة والتوعية للجمهور حتَّى يثقوا بخدمتها الصادقة.

ثالثًا: إذا توفَّر المال لديها بعد ذلك، فعليها إحياء تراث السلف الصالح من العلوم مما تستسيغه الخاصَّة، وترضى عنه العامَّة، وتقدِّمه للنشر خدمة للدين ونشرًا للثقافة، وانتشار المعرفة بين أفراد الأمَّة، ليكونوا مواطنين صالحين كما أراد لهم الله، فتكون بذلك خدمت نفسها ودينها، ووطنها.

الدعامة الثانية الوجاهة

جعلها بعض العارفين أهمَّ من ناحية المال، وهي فكرة غير بعيدة عن الصواب فيجب أن يكون أعضاء الجمعيَّة - إن لم يكن الكلُّ - ممَّن لهم المكانة المرموقة في محيطهم، والسمعة الحسنة ممن عُرفوا بالعلم وازدانوا بالأدب، وسموِّ الأخلاق، فتحلَّوا بسمت الكرامة ممَّن سحق الأنانيَّات، وترك حبَّ الذات، ونبذ العصبيَّات.

سمعتهم حبُّ الخير للمجتمع، وصفتهم حبُّ السعادة للأمَّة، ليس غرضهم إلَّا نشر العلم، ولا همَّ لهم إلَّا تهذيب الناشئة لانتشالهم من هوَّة الجهل، فإذا لم يكونوا ممَّن ارتدوا رداء العلم، ولا ممَّن تقمَّصوا الآداب، ولا ممَّن تسلَّحوا بسلاح الأخلاق.

فكيف يمكن لجمعيَّة ليس فيها ما ذكر أن تسير، وتحتلَّ مكانتها في القلوب، وتأخذ ثقتها من المجتمع؟ وكيف يرجو أن تسير والرأي العامُّ بعيد عنها ساخط على أعضائها؟ وكيف تأمل مساقتها من المجتمع، أو من رجال العلم بأفكارهم ومن أرباب المال بسخائهم وهم أنفسهم لا يعرفون كيف يسيرون؟ وما ثمرة الجمعيَّة وما هو نتائجها لبلادها، وأمَّتها وهذا هو حالها؟

إنَّ الرجل الذي يريد أن يجلَّه الناس، ولم يكن عنده ميزة لهو أحمق، وإنَّ الرجل الذي يريد أن يحترمه الناس، ولم يتحلَّ بفضيلة لهو معتوه، وإنَّ الزارع الذي يريد أن يحصد، ولم يبذر الحَبَّ لهو مجنون، وإنَّ جمعيَّةً هذه أعضاؤها، فهي ميِّتة، وهي في عالم الفكر، والخيال قبل أن تبرز إلى عالم الوجود، والحقيقة والعمل.

 

من كتاب «نظرات في الكتب والصحف» للعلَّامة الشيخ باقر بو خمسين، والذي صدر حديثًا، اخترنا لكم هذه المقالة، وهي تتحدث عن جانب اجتماعيِّ، وفيها يوضِّح أنَّ العمل الاجتماعيَّ لا يقوم إلَّا على دعامتين؛ المال والوجاهة، فبغيرهما لا ينهض أيُّ عمل اجتماعيٍّ.

وسيلاحظ القارئ أن هذا الجانب ممتزج مع جوانب أخرى داخل المقالة بأسلوب أدبي سلس قائم على التفصيل وتحديد المقترحات.
سماحة العلامة الشيخ باقر بن آية الله الشيخ موسى بوخمسين من المفاخر الأحسائية التي هي محل الاعتزاز، وذلك لما جمعته شخصيته الكبيرة من علم غزير، وأدب رفيع، وثقافة موسوعية شاملة، ولما له من نشاط ديني، وعلمي، وثقافي، وأدبي، واجتماعي، سواء في موطن دراسته الدينية «النجف الأشرف»، أو في موطنه ومسقط رأسه «الأحساء». إلى جانب توليه القضاء الجعفري لمدة 25 عام.

إضافة إلى ما تحلى به سماحته من إيمان وتقى، وزهد وورع، وعفة.

وله العديد من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة.