آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 6:56 م

الحب والكرامة وجه في المرآة

عبد الباري الدخيل *

إذا جادت لك الحياة بدرس فلا تهمل التأمل فيه، إن كنت تريد مستقبلًا أفضل، فإنّ نتائج مختبر الحياة من أصدق النتائج، لا يزخرفها وهمٌ ولا يجمّلها هوى.

كانت نفس «مرتضى» تحدثه دائمًا، وتحثه أن يستفيد من الدروس المجانية التي تمر عليه.

حتى عندما أهمل الاعتناء بصحته، وزاد وزنه عن المائة كيلو، وضجت أطرافه من ثقل الشحوم واللحوم، عاد وتوجه للعلاج، للاستفادة من الدرس، وقد اتحد جواب الأطباء: روماتيزم، حاولْ أن تخفف من وزنك.

وعندما هزمه التعب أجرى محاولات عدة لإنزال وزنه، ودخل في برامج مختلفة، بعضها مقتنع به وأخرى فقط ليتخلص من هذه الآلام.

ذات مساء نصحه صديقه «فاضل» الذي يعمل في المستشفى العام أن يزور طبيب العظام، لعل للآلام سبب آخر غير ما ذُكِر.

وهذا ما حدث فقد اكتشف الطبيب بعد إجراء التحاليل المخبرية اللازمة أنه يعاني من زيادة أملاح، وهذا ما كان يعرف قديمًا باسم «النقرس».

في إحدى مراجعاته للعيادة، تقدم بعد أن سمع اسمه متوجهًا للعيادة لمقابلة الطبيب، فاستوقفته إحدى الممرضات وجعلت تتأمل في وجهه، ثم نطقت اسمه بصوت متهدج، وكأنها تخرجه من أعماقها، أو تمسك به لكيلا يخرج: أنت مرتضى؟!

تذكر الصوت، وطابق الوجه بالصورة التي حُفظتْ في تلافيف ذاكرته.. كيف ينساها؟

إنها المرأة التي أجرت مياه الغدر على حديقة حبه فأغرقت جنته، وأرسلت نيران حقدها فأحرقت ما تبقى من صور مشرقة.

هي المرأة التي أوهمته بالحب، واتخذته سلمًا لتصل إلى صديقه حفيد الأغنياء، وعندما وصلت؛ حذفت اسمه من قائمتها، ومضت تبحث عن نعيم الغنى، لكنها تبعت سراب.

ومضت الأيام تباعد بين طريقيهما، ولأن الأرض كروية ها هي تجمعهم بعد حين من الزمن.

لم تعرفه ابتداءً لتغيّر تفاصيل وجهه وسمنته، وعرفها لأنها سكنت بؤبؤ عينه ذات مساء.

صوتها يكشف عن مفاجأة عاشتها، وسؤال يصفعها: من أين خرج هذا الكائن؟

هل هو اسم مثل اسم؟ أم هو هو؟

اقتربت منه وكأنها تأذتْ مما فعلتْ، وجاءت تعلن توبتها، وتطلب المغفرة.

قالت: هل يسامح القلب الكبير طفلًا عبث بعود ثقاب؟

? نعم إذا لم يحترق ويتوقف نبضه.

? فهل يغفر الجرح للخنجر قسوته؟

? نعم إذا لم يذبحه من الوريد إلى الوريد.

? هل تسامحني؟

اهتز الكون وارتجفت شفتاه.. وكادت تتسلل دمعة من بين أحزانه وهو يحرك رأسه يمينا وشمالًا.

قالت باكية: سامحني.

? كيف أسامحك وجرحك ما زال يقاوم النسيان؟ كيف أغفر لك وقد شعرت لهول ما فعلت بي أن الله لا يحبني؟ مرّات كثيرة كنت أسأل نفسي: ”تقدر تسامحها؟“

ثم اكتشفت خطأ السؤال، يُفترض أن يكون سؤالي: ”كيف تسامح نفسك وأنت وثقت بها، وأعطيتها روحك وقلبك؟“.

? أنا لو مكانك..

فقاطعها وقد رفع يده في وجهها: ”عمرك ما راح تكونين مكاني، ولن تتعرضي للضغوط التي تعرضت لها، ولن تعرفي حجم المعاناة التي عانيتها“.

? لكنني طُلقت، وأُخذ ولدي، وأعاني الأمرّين.. صمتت قليلًا ثم أكملت: إنني لا أنام الليل من نار الحزن التي تحرق قلبي.

? وإن كان.. لن أصفح عنك حتى تتوقف الزهرة عن الذبول.. والشمس عن الغروب.. اذهبي فإن الله يحبني، وقد أشعل خنجرك شمعة في طريقي علمتني درس: ”الراحل إما ميت، وإما لا يستحق الحياة“.

? صدقني أنا لم أغدر بقلبك.. صحيح أنني كنت معجبة بك لكنّ بوصلة قلبي مالت هناك.

? فذهبتِ تبحثين عن الحب؟

? القلب…

? قاطعها: والذي كان بيننا فقط إعجاب؟

? صمت وحزن

فأكمل: ذهبتِ لرجل آخر لتعيشين معه قصة حب.. «صمت ثم أكلم» هنيئًا له وجودك.

نظر في وجهها وهو يقول: وهنيئًا لي عندما تنادينه بإسمي.. وعندما تأخذينه للأماكن التي عودتك عليها.. وتطلبين الطعام الذي أكلناه سويةً.

ويا حبذا لحظة الصمت التي تجتاح روحك عندما تسمعين اسمي، والحزن الذي يسابق طيفي في عينيك.

أنا نقطة الحبر التي أعطت القلم بداية مشواره، واليوم أنزع الروح ليقف القلم، فكرامتي كنزي الذي لن أفرط فيه.

وغادر المستشفى بألم أشد مما جاء من أجله، لكن بقي رأسه مرفوعًا فقد فهم الدرس.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
شريفه
[ صفوى ]: 22 / 9 / 2023م - 9:58 ص
كلام جميل وهذا هو الواقع