آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 3:29 م

سماع الجنين للُغة الأم قبل الولادة يحفز الدماغ إدراكيًّا ولغويًّا

الدكتور أحمد فتح الله *

يكتسب الأطفال الرضع اللُّغة بسهولة ملحوظة مقارنة بالبالغين، لكن الأساس العصبي لمرونة دماغهم الرائعة فيما يتعلق باللُّغة لا يزال غير مفهوم. من خلال تطبيق تحليل مقياس التذبذبات العصبيّة لمعالجة هذا السؤال، أظهرت دراسة حديثة أن النشاط الكهربي الفيزيولوجي لحديثي الولادة يُظهر ارتباطات زمنيَّة طويلة المدى متزايدة بعد التحفيز بالكلام، خاصة في اللُّغة المسموعة قبل الولادة، مما يشير إلى الحدوث المبكر لتخصص الدماغ في اللُّغة الأم.

وجد فريق من علماء الأعصاب في جامعة بادوا في إيطاليا، بالتعاون مع علماء من جامعة باريس سيتي في فرنسا وجامعة أمستردام في هولندا[1] ، أدلة تشير إلى أن النمو العصبي للأطفال الذين لا يزالون في الرحم يتأثر باللُّغة التي يسمعونها من أمهاتهم أثناء حملهن بهم.

في ورقتهم المنشورة في مجلة ”تطورات العلم“ «Science Advances»، يفصل الفريق العلمي البحث الذي أجروه على الأطفال حديثي الولادة المزودين بأغطية تخطيط كهربية الدماغ «EEG». أظهرت الأبحاث السابقة أن الأطفال الذين ما زالوا في الرحم «ابتداءً من عمر سبعة أشهر تقريبًا» يسمعون أمهاتهم وهن يتحدث لهم. كما يسمعون أصواتاً أخرى، مثل الموسيقى والضوضاء العامة. ويمكنهم بعد الولادة التعرف على أصوت أمهاتهم وعلى ”ألحان محددة“ في «طريقة» كلامهن. ولكن يبقى تأثير سماع مثل هذه الأصوات على التطور العصبي لدماغ الطفل ليس معروفًا بعد، لذا أجرى فريق البحث في إيطاليا تجربة شملت 33 طفلاً حديث الولادة مع أمهاتهم، وجميعهم من الناطقين باللغة الفرنسية.

تألفت التجارب في الدراسة من تزويد جميع هؤلاء الرضع بقبعات تسمح بمراقبة وتسجيل مخطط كهربيّة الدماغ في الأيام التاليّة للولادة. وأثناء نوم الأطفال، قام الباحثون بتشغيل تسجيلات لشخص يقرأ نسخًا بلغات مختلفة «الفرنسية، والإنجليزية والأسبانية» من كتاب ”قولديلوكس والدببة الثلاثة“ «Goldilocks، and the Three Bears» [2] . تسجيلات مخطط كهربيّة الدماغ أثناء القراءة كان يسبقها تسجيل لفترة صمت قصيرة قبل تشغيل قراءة الكتاب، ويستمر التسجيل لفترة صمت أخرى بعد القراءة.

أفادت تحليلات قراءات مخطط كهربية الدماغ، أن الأطفال الذين كانت أمهاتهم تحادثهم باللغة الفرنسية قبل الولادة أظهروا أثناء الاستماع للقصة باللغة الفرنسية زيادة في الارتباطات الزمنيّة طويلة المدى، خلافًا لما كان يحدث حين يسمعون القصة باللُّغة الإنجليزيّة أو الأسبانيّة. هذه الحالة هي من النوع الذي يكون مرتبطًا سابقًا ب ”إدراك الكلام ومعالجته“، وهذا دليل على أن دماغ الطفل يتأثر خلال التعرّض للُّغة أثناء وجوده في الرحم. ووجد فريق البحث أيضًا أن الاستجابة العصبيّة «neural response» للطفل كانت أقوى في قراءات مخطط كهربية الدماغ عندما كان الكتاب يُقرأ باللغة الفرنسيّة، مما يشير إلى أن التعرض للغة معينة قبل الولادة لعب دورًا في التطور العصبي للدماغ «brain neural development».

وقد أجرى الباحثون أيضًا تحليلات إحصائية متقدمة، وتحديدًا ”تحليل التقلبات المنحرفة“ «detrended fluctuation analysis، اختصارًا: «DFA» على قراءات مخطط كهربية الدماغ كوسيلة لقياس ”قوة الارتباطات وثباتها زمنيًّا“ «temporal correlations» ووجدوا أنها أقوى في نطاق ثيتا «theta band» [3] ، الذي أظهرت الأبحاث السابقة، حسب ما ذكرت الدراسة، أنه يرتبط بوحدات الكلام «speech units» على مستوى المقطع اللغوي «syllable-level». ويشير الفريق العلمي إلى أن هذا يوضح أن أدمغة الأطفال تصبح متناغمة مع العناصر اللُّغويّة الموجودة في اللُّغة التي سمعوها وهم أجنَّة؛ أي أنَّ اللُّغة التي تتحدث بها الأم في فترة الحمل تساهم مبكرًا في تحفيز المخ على التعامل مع اللُّغة بعد الولادة.

وثمة سؤال مهم تقدحه نتائج هذه الدراسة، ألا وهو: هل سماع اللُّغة قبل الولادة يساعد على تفعيل مَلَكة اللُّغة «Language Faculty» وتحفيز جهاز اكتساب اللُّغة «Language Acquisition Device»، وهما من الفرضيّات الأساسيّة في نظريّة تشومسكي اللُّغوية؟ أم أنَّ المَلَكة والجهاز يأخذان دورهما الطبيعي بعد الولادة في البيئة اللُّغويّة التي يوجد فيها الطفل؟. ننتظر تعليق تشومسكي أو تلامذته على هذه الدراسة أو دراسة قادمة تجيب عن هذا السؤال.

كما قدحت الدراسة فكرة لدراسة مماثلة مع أمهات عربيات وأطفالهن يقوم بها مختصون عرب أو الفريق الذي قام بالدراسة الحالية[4]  تقارن بين التالي:

- مجموعة حوامل يتحدثن مع أطفالهن باللغة العربية المحكيّة فقط

- مجموعة أخرى تقرأ لهم باللغة الفصحى فقط

- وبعد الولادة تقرأ مجموعة من الأمهات للرضع باللغة المحكيّة وأخرى بالعربية الفصحى.

هذا لأن المعلوم عربيًّا أن ”اللُّغة الأم“ هي اللُّغة المحكيّة «اللهجة المحليّة» وهي المكتسبة طبيعيًّا وليس بالتعلّم، في حين أن الفصحى هي لغة متعلَّمة؛ يتم تعلمها رسميًّا أي في المدرسة ك ”لغة ثانيّة“، واللغة الثانية في علم اللُّغة التطبيقي تعني اللغة ما بعد الأولى أو معها واللغة الأجنبيّة «foreign language». إنّ مثل الدراسة المقترحة ستساهم في فهم أفضل لقضية الأزدواجيّة اللُّغوية عند العرب، ومسألة اكتساب وتعلّم ”اللُّغة المزدوجة“. والسؤال الذي يخاطرني هو: هل تحدّث الأمهات الحوامل وقرأتهن بالفصحى لأجنتهن يساعد في ”تطبيعها“ بعد ولادتهم مما يؤدي إلى تقبلها والتفاعل معها مما يساعد على إغلاق الفجوة بين اللهجة والفصحى؟

وتبقى الدراسة مهمة للأسباب التالية:

- أكدت أن الأجنَّة تسمع وتتفاعل مع ما تسمع بطريقتها الخاصة.

- ثبت علميًّا أنَّ ممارسة الأمهات الحديث مع أجنتهن والغناء لهم له مردود إجابي في نموهم اللُّغوي والعقلي بعد الولادة.

- أنّ دخول البيولوجيا العصبيّة وتقنيات دراسة وتخطيط المخ في الدراسات اللُّغوية ساهم في فهم أفضل لجوهر اللُّغة وسؤال كيفية اكتسابها وتعلمها[5] .

[1]  Mariani et al., “Prenatal experience with language shapes the brain”, SCIENCE ADVANCES. 9, eadj3524 «2023» 22 November 2023.

[2]  هي قصة خيالية إنجليزية من القرن التاسع عشر تحكي عن امرأة تأتي إلى لغابة وتدخل منزل ثلاثة دببة أثناء غيابهم.

[3]  ”ثيتا“ هي من حزم تردد تخطيط امواج الدماغ، ونطاق ترددها من 4 حتى 7 هيرتز. يشارك نطاق التردد هذا في أحلام اليقظة والنوم. وفي الحالة المثلى، ويقال أن ثيتا لها علاقة بالإبداع والتواصل العاطفي والحدس والاسترخاء، بل وتجعل الإنسان يشعر بأنَّه أكثر طبيعيّة «المترجم».

[4]  سأقوم بإرسال مقترح الدراسة إلى الدكتورة بينيديتا مارياني «Benedatta Mariani» قائدة الفريق ومعدة التقرير المنشور.

[5]  انظر: مقالتنا بعنوان: ”لُغة الإنسان من منظور البيولوجيا العصبيّة“، على الرابط التالي:

https://jehat.net/106170
تاروت - القطيف