آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 8:50 م

الطبقة الوسطى التي نخاف أن تضيع

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة اليوم

ما الطبقة الوسطى؟ هي طبقة من يعيش في بحبوحة اقتصادية مكتسبة وليست متوارثة، بمعنى أن الأب مثلاً ولد في قرية لأسرة تعمل بالفلاحة، ثم تعلم والتحق بجامعة فأصبح طبيباً ثم استشارياً ناجحاً عليه إقبال، تخطب المستشفيات وده، هذا مثال للطبقة الوسطى! الطبقة الوسطى لا تحوي من هم على الحافة الاقتصادية، فهي الطبقة الواقعة بين الطبقة الثرية التي تشمل كبار الملاك، وبين الطبقة العاملة؛ بمعنى أن الأسرة في الطبقة الوسطى تعيش في بحبوحة، فهي الطبقة التي تضم المهنيين ورجال الأعمال.

ورغم توسع بعض الأدبيات التقليدية في جدلية ماهية الطبقة الوسطى، إلا أن دخل الأسرة عامل أساس في تصنيف الطبقة التي تنتمي لها الأسرة؛ فإذا أخذنا ما تناولته وثيقة «حساب المواطن» من تصنيف الأسر السعودية، وفقاً للدخل، إلى خمسة أخماس، فيكون ملائماً القول إن الطبقة الوسطى هي الخُمس الثالث، وذلك يعني أن الخُمسين الأول والثاني يمثلان الطبقة العاملة، في حين أن الخُمسين الرابع والخامس يمثلان الطبقة الثرية. لكن ذلك يفترض افتراضات غاية في الغلظة؛ أن توزيع الثروة يتبع التوزيع الاعتيادي «normal» احصائياً، وأن لا انتشار كبير للفقر من جهة أو للثراء الواسع من جهة أخرى، وهذه افتراضات لا تمت لواقعنا بصلة، فالأسر التي بحاجة لدعم مادي حتى تستطيع توفير احتياجاتها الأساسية من مأوى ومأكل ومشرب ورعاية صحية وتعليم، تعد بمئات الآلاف! بمعنى أن الأقرب للافتراض أن الخُمس الأول يضم الأُسر الفقيرة، والخُمس الثاني يضم الأسر ممن هم فوق خط الفقر النسبي ولكن تحت خط الكفاف «أو الكفاية»، وأن الخمس الثالث هو الطبقة العاملة، والخمس الرابع هو الطبقة المتوسطة «المهنية ورجال الأعمال»، والخمس الخامس يشمل الطبقة الثرية.

توزيع الأُسر السعودية بهذه الطريقة هو مجرد فرضية بحاجة إلى اختبار باتباع المنهج الاحصائي، ومع ذلك فملائم القول «من باب الافتراض كذلك» أن «الأخماس الخمسة» ليست متساوية بالضرورة، بمعنى أن كل خُمس قد يكون أقل أو أكثر من 20%! وهكذا، فلعل من الأدق تسمية الأخماس فئات أو مساقات مثلاً، إذ ليس متصوراً أن أُسرّ كبار الملاك والأثرياء تمثل 20% بل لعلها أقل من نصف ذلك.

ما تقدم جزء من الأسئلة التي تُحيط ببرنامج «حساب المواطن» وهي أسئلة مُلّحة بحاجة لإجابات وافية نابعة من دراسة اجتماعية وفق منهجية إحصائية مُعتبرة. فعلى الرغم من أن هناك من يعلق أهمية كبيرة على توفير إجابات حاسمة من نوع «نعم أم لا» على بعض الأسئلة مثل: هل يدخل راتب الزوجة ضمن دخل الأسرة لأغراض احتساب الدعم؟ وهي إجابة لم تأت حتى الآن، بل أتت إجابة تقول: «يعتبر دخل رب الأسرة هو الدخل الأساسي للأسرة السعودية وهي المبالغ من أي مصدر دخل دوري سواء كان شهريًا أم سنويًا. ويتم النظر حاليا في آلية معاملة دخل افراد الأسرة الآخرين. ويتم التحقق من الدخل من خلال آلية مرتبطة بعدة جهات لجمع البيانات، وأيضا مقارنتها بما يتم الإفصاح عنه. «وفي موقع آخر يقول الدليل الصادر عن وزارة العمل والشئون الاجتماعية أن رب الأسرة يمكن أن يكون ذكراً أو أنثى.» إذاً نحن لسنا أمام إجابات قاطعة لبعض الأسئلة من نوع: الأسرة مكونة من زوج يعمل وزوجة تعمل وأربعة أطفال أحدهم رضيع والثاني في الحضانة والاثنان الباقيان يذهبان إلى المدرسة، فكم ستتلقى الأسرة دعماً؟ وما هي بنود الدعم؟

وإضافة لما تقدم، فلم تُرسم بعد الخطوط الفاصلة بين «الأخماس» الخمسة بما ينسجم مع تعديل أسعار السلع المعانة؛ بمعنى أن الدعم سيدفع بناءً على جملة سلع، لكل سلعة كمية استهلاك معينة وفقاً لعدد أفراد الأسرة، ووفقاً إن كانت الخدمة متاحة في محل سكن الأسرة أم لا. فمثلاً ليس بالإمكان التعامل معاملة متساوية بين أسرة تصلها خدمة الماء، وأخرى تضطر أن تشتري بالوايت، وقس على ذلك فيما يتصل ببقية الخدمات.

وكما ذكرت في المقال السابق، يبدو أننا أمام أمرين متداخلين؛ الأول: توجيه الدعم لمستحقيه، ففي ذلك الحد من هدر المال العام، وهذا أمر لن يختلف على أهميته اثنان، أما الأمر الآخر فهو: ما المعيار «أو المعايير» الذي يحدد مَنّ يستحق الدعم النقدي؟ فيما يتعلق بالأمر الأول «توجيه الدعم لمستحقيه» فهو أقل صعوبة. أما الأمر الثاني «ما المعيار الذي يحدد من يستحق الدعم النقدي؟»، فأظنهُ الأكثر تعقيدا؛ إذ يتطلب تحديد ثلاثة خطوط تماس؛ خط الفقر، وخط الكفاف، وخط البحبوحة. بما يدفع لافتراض أن الأسر التي يقع دخلها - إن كان لها دخل مستقر - بين خطي الفقر والكفاف تستحق دعما كاملا، فيما تستحق الأسر التي يقع دخلها بين خطي الكفاف والبحبوحة دعما جزئيا متفاوتا.

وباعتبار أن هذه «الخطوط» تتفاوت حدودها من بلدٍ لآخر، لاعتبارات ميدانية واجتماعية - اقتصادية عديدة مما يعني أهمية تحديدها، لما لذلك من تأثير جوهري في تحقيق العلة الأساس من تقديم الدعم، وهي محاصرة الفقر وتحسين مستوى معيشة الأسر السعودية في كل جنبات الوطن بوتيرة متصاعدة عاماً بعد عام. وبذلك بوسعنا العودة ثانية للأخماس الخمسة للقول، إن الخُمس الأول هو الفقير ويستحق دعماً كاملاً ويضاف عليه هامش للنثريات كذلك، أما الخُمس الثاني فهو للطبقة العاملة وهذه في إجماليها تستحق دعماً يتراوح بين الكامل والجزئي تبعاً لمستوى الدخل وعدد أفراد الأسرة ومدى توفر الخدمات حيثما تسكن الأسرة، أما الخُمس الثالث فهو الطبقة المتوسطة من المهنيين ورجال الأعمال فهؤلاء يفترض أنهم ليسوا بحاجة لدعم، لكن لم يخل الأمر أن قسماً من هذا الخُمس سيحتاج لدعم، أما فئة كبار الملاك والأثرياء فلن يحتاجوا دعماً. ولا بد من الاستدراك ثانية بالقول إن «الخُمس» هنا لا يعني بالضرورة 20%.

أما السؤال الذي يبدو أنه «ضاع في العجة»، كيف سيكون تأثير تحرير أسعار السلع الناتج عن تقليص الدعم الحكومي، على أسر الطبقة الوسطى؟ هل ستسحبها التكاليف المتصاعدة للسلع الأساسية لتصبح تلك الأسر ضمن الفئات المستحقة للدعم؟ قد يقول قائل: وما المشكلة؟ ليسجل رب الأسرة ويكتشف إن كان يستحق دعماً أم لا! المشكلة تكمن في أننا إن أخذنا ندفع دعما نقديا من «حساب المواطن» «كلي أو جزئي» لمعظم الأسر السعودية، إذاً فمن هو المكتفي؟ ومن هو الذي يعيش في بحبوحة؟ وهذا سيطرح أسئلة اجتماعية - اقتصادية لم نعتد أبداً على مواجهتها، مثل كفاءة توزيع الدخل، وأهمية تحقيق نمو اقتصادي بما يساهم في خلق وظائف، وأهمية أن تذهب الوظائف عالية الدخل للسعوديين حتى يصبحوا خارج من يستحق الدعم. وسنجد أنفسنا نتجه من اهتمامات «الكم» إلى اهتمامات «النوع»، وهنا تصبح «مؤشرات الأداء» محل تمحيص الجميع، إذ سيصبح الجميع مهتما بتلك المؤشرات، سواء أكانت معدل نمو الاقتصاد، أو البطالة، أو توليد الوظائف، أو ما سواها من المؤشرات الاقتصادية فهي على صلة بخسائره ومكاسبه. ولذا، فالأمر الذي بدأناه ب «حساب المواطن»، لا بد أن نكمله بتحقيق نمو اقتصادي وتوجيه الوظائف القَيّمة «value jobs» للمواطنين بآلية فعالة؛ توفيراً للمال الذي سيدفع دعماً من جهة، وطلباً للتوازن الاجتماعي - الاقتصادي عبر توسيع الطبقة الوسطى من الأسر السعودية؛ حتى لا ينتهي المطاف ب «حساب المواطن» يودع أموالا في حسابات جُلّ الأسر السعودية.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى