آخر تحديث: 15 / 5 / 2024م - 8:45 ص

Solitude from psychology point of view

الخلوة «العزلة» مع النفس من وجهة نظر علم النفس

الخَلوة «أو العزلة» وهي في اللغة مكان الانفراد بالنَّفس وهو مصطلح لغوي قديم فقد كان آبائنا وأجدادنا يماسون الخلوة بشكل يومي في غرفة معزولة في أعلى المنزل وعادة ما تكون هذه الغرفة منعزلة وبعيدة عن ضوضاء المنزل حيث يقوم رب المنزل بتخصيص وقت في كل يوم للاختلاء بنفسه وللراحة بعد يوم حافل بالعناء والجهد.

الخلوة «والعزلة» والوحدة قد يعتقد أنهما قد تؤذي إلى نفس المعنى ولكن في الحقيقة إن الخلوة «العزلة» هي حالة من العزلة دون الشعور بالوحدة ويمكن أن تؤدي إلى الوعي بالذات. من الخارج، تبدو العزلة والوحدة متشابهة إلى حد كبير فكلاهما يتميز بالعزلة الانفرادية لكن كل التشابه ينتهي عند السطح فالوحدة هي حالة سلبية، يتسم بالشعور بالعزلة حيث يشعر المرء أن هناك شيئًا ما مفقودًا فمن الممكن أن تكون مع الناس وما زلت تشعر بالوحدة وربما تكون أكثر أشكال الوحدة مرارة.

فالوحدة تتسم بالقساوة، وتعتبر عقاب للنفس، وحالة من حالات النقص الذاتي السلبي، وحالة من السخط والشعور بالغربة بينما الخلوة «العزلة» شيء أنت تختاره تفرضه أنت على نفسك برضا كامل بينما يفرض عليك الآخرون الشعور بالوحدة.

فبينما نشعر بالضغوطات اليومية وبالحمل الزائد، والمبالغة في رد الفعل تجاه المضايقات اليومية التي توجهنا وحينما نفقد السيطرة وعدم التحمل وينتابنا الشعور بأننا لا نستطيع اللحاق بالركب وبقدر ما نشعر بالقلق، فإن أفضل الطرق هي البحث عن العزلة والاستمتاع بها.

فالخلوة «العزلة» شعور تحت هالة ومجهر النفس، ووقفة اعتراف ومراجعة الحسابات مع النفس ومحاسبتها حيث لا مجال للكذب والنفاق والخداع والتزييف، فهو شعور بلحظات صادقة ونقية حينما تبدأ الحديث مع الروح، ذلك الحوار الداخلي، تلك المكالمة الانفرادية والهمس مع النفس حيث يصغى الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذناً أخرى تتلصص عليه، إنها حالة إفشاء وإفضاء واعتراف عما جرى بالماضي، وما ستخطط له بالمستقبل.

فالخلوة «العزلة» ضرورية في عملية خلق الأفكار الخلاقة سواء كنت تعمل على حرفتك أو فكرة رائعة تحاول حشدها، فإن حبس نفسك بعيدًا لبعض الوقت سيتركك أنت وعقلك وحدك للقيام ببعض المداعبة الهادفة.

يقترح راينر ماريا ريلكه وهو شاعر نمساوي غنائي يقول ”لكي ينجح المرء في عمله، يجب على المرء أن يدخل في خلوة مع نفسه بغرض اعتبارها ظرفًا مطلوبًا فهي كالأداة ومن أجل الشعور بالراحة ومع فكرة الخلوة، من المهم الاعتراف بحالتنا الأصلية كبشر“.

ولا يختلف علماء النفس، إن من فوائد الخلوة مع النفس الشعور بالراحة وإعادة شحن طاقتك، في تمنحك الفرصة لتهدئة أعصابك والابتعاد عن ضغوط الحياة، واستعادة الوضوح والتركيز، سواء كان ذلك بالحصول على حمام دافئ أو ممارسة التأمل والاستمتاع باللحظات القليلة التي تجلس فيها مع نفسك.

من فوائدها أيضاً تعزيز الإبداع، فالانفراد بالنفس هو العنصر الحاسم لاستثارة طاقتك الإبداعية، وقيل أيضاً إن الخلوة بالنفس تمنحك الشعور بالحرية من أي قيود، سواء كان الاهتمام بأبنائك أو تلبية طلبات زوجتك أو إجبار نفسك على التفاعل مع الأشخاص المحيطين، ففي خلوتك تستطيع القيام بالأشياء وفقاً لشروطك أنت، مما يساعدك على تحسين الحالة المزاجية وخلق التوازن الذي يجعلك تشعر بالسيطرة على حياتك، فحاول دائما أن تأخذ موعداً مع نفسك وتختلي بها، ولا تنسى أن أجمل خلوة وأفضلها، الخلوة مع الله والناس نيام.

ولكي تكون الخلوة «العزلة» مفيدة، يجب تلبية بعض الشروط المسبقة كما يقول عالم النفس التنموي بجامعة ماريلاند كينيث روبين كما يسميهم ”ifs“. يمكن أن تكون العزلة منتجة فقط:

• إذا كانت طوعية

• إذا كان بإمكان المرء تنظيم عواطفه ”بفعالية“

• إذا كان بإمكان المرء الانضمام إلى مجموعة اجتماعية عند الرغبة

• إذا كان بإمكان المرء الحفاظ على علاقات إيجابية خارجها

عندما لا يتم استيفاء مثل هذه الشروط يمكن أن تكون العزلة ضارة. ضع في اعتبارك ظاهرة الهيكيكوموري في اليابان، حيث يقبع مئات الآلاف من الشباب المكتئبين أو المضطربين النفسيين أنفسهم بعيدًا، أحيانًا لسنوات، وغالبًا ما يتطلبون علاجًا مكثفًا لإعادة الإدماج للمضي قدمًا.

فالفرق بين العزلة كتجديد للحيوية والعزلة باعتبارها معاناة هو نوعية التأمل الذاتي الذي يمكن للمرء أن يولده أثناء وجوده، والقدرة على العودة إلى المجموعات الاجتماعية عندما يريد المرء ذلك. عندما يتم استيفاء الشروط المسبقة، يمكن أن تكون العزلة إصلاحية. بالنسبة لـ Fong، الذي يتأمل 15 دقيقة يوميًا ويأخذ رحلات تخييم فردية شهرية، فهي ضرورة مثل ممارسة الرياضة أو تناول الطعام الصحي فهي ضرورة لعقل سليم وإنه يخلصك من المشاكل وله وظيفة قوية تجعلك تفهم مأزقك في هذا الكون.

وأجمل ما قرأت في فوائد الخلوة «العزلة» ما يلي:

1. الخلوة تلزمنا من حينٍ إلى آخر، لنكون فيه وحدنا مع أنفسنا، لا يشاركنا أحد، ولا يؤثر علينا آخر، لنكون فيها نحن كما نحن، على طبيعتنا وسجيتنا، وبأشكالنا وهيئاتنا، وبوجوهنا المجردة، الخالية من المحسنات والمجملات، فلا زينة ولا خداع، ولا مظاهر زائفة ولا أقنعة ملفقة. الوحدة والخلوة حاجة، بل هي ضرورة، فهي علامة صحة لا دليل مرض، وهي إشارة إيجابية على الصدق والإدراك، لا علامة على الانطوائية والانعزال، وهي عادةٌ يمارسها العقلاء، ويلجأ إليها الراشدون الواعون، في الوقت الذي يتجنبها ويبتعد عنها اللاهون العابثون، ولا يقدرها المستخفون الماجنون، وهي عادةٌ يحرص عليها الصادقون، ولكن يخاف منها المخطئون، فلا يلجأ إليها إلا الجادون.

2. الخلوة تلزمنا من حينٍ إلى آخر، لنكون فيه وحدنا مع أنفسنا، لا يشاركنا أحد، ولا يؤثر علينا آخر، لنكون فيها نحن كما نحن، على طبيعتنا وسجيتنا، وبأشكالنا وهيئاتنا، وبوجوهنا المجردة، الخالية من المحسنات والمجملات، فلا زينة ولا خداع، ولا مظاهر زائفة ولا أقنعة ملفقة. الخلوة تجعلنا لا نخاف من أحد، ولا نضطر إلى التظاهر والادعاء، ولا نخفي حقيقتنا، ولا نتعمد الإتيان بما يخالفنا، وهي تتيح لنا لحظات صدقٍ وصراحة، وفرصة للمكاشفة والوضوح، فلا نخشى ردة فعل الآخرين، ولا نحسب حساباً لآرائهم، ولا نضطر لمجاملة صديقٍ أو رفيق، ولا لنفاق قويٍ أو كبير.

3. الخلوة ضرورة ليسمع الإنسان من نفسه، ويتحاور معها، ويسألها ويحاسبها، ويعاقبها ويوبخها، ويقسو عليها ويعنفها، ويحقق معها أحياناً لمعرفة الحقيقة منها، والوقوف على أصل الأشياء التي تخفيها المظاهر، وتحول اللباقة والمجاملة والدبلوماسية والحرص على المظاهر والأشكال عن كشفها أو بيانها.

4. الخلوة فرصة للمراجعة والتوبة، ووسيلة للكف والندم، إذ لا أصدق من التوبة التلقائية، ولا أجدى من المحاسبة الذاتية، ولا أثبت من العلاجات النفسية، التي يلجأ إليها الإنسان بنفسه، ومع نفسه، دونٍ دفعٍ من أحدٍ، أو تحريضٍ من آخر، فهي توبةٌ بليلٍ وخفاء، لا يعلم بها غير الله وصاحبها، ما يجعلها قوية وصادقة، وفاعلة ودائمة، فلا يتهمها في صدقها أحد، ولا يشكك في جديتها آخر.

5. الخلوة تتيح للإنسان أن يكون قاسياً مع نفسه، وشفافاً معها، وقصدياً مباشراً، وقريباً ملاصقاً، فلا يجاملها ولا يداريها، ولا يخفي عليها ولا يخدعها، ولا ينافقها ولا يخاف منها، ولا يتردد في صفعها أو صدمها، ولا يعنيه مفاجئتها أو مباغتتها، ولا يكون مضطراً للتهيؤ المساءلة والاستعداد للمحاسبة، ليتجنب الأخطاء، ويتجاوز السلبيات، ويخفي الأصول ويظهر خلاف الحقائق. ليس مجنوناً ولا مخرفاً ذاك الذي يجلد نفسه، ويحاسب ذاته، ويجلس معها في غرفةٍ مظلمةٍ، أو في مكانٍ نائي، وحده بعيداً عن الناس، يرفع صوته عليها، ويشكك في صدقها، ويتهمها في نواياها، ويكشف حقيقة خباياها، ويدينها ويحاكمها، ويفرض عليها شروطه وأحكامه. وليس مجنوناً من يعاقب نفسه بحرمانٍ من طعامٍ، أو منعٍ من نومٍ، أو إكراهٍ على ما لا يحب، أو إجبارٍ على ممارسة أعمالٍ مرهقة، والقيام بمهامٍ متعبة، أو معاكسة النفس ومخالفتها، فيوقظها فجراً أو في جوف الليل، أو يسحبها من فراشٍ دافئٍ في ليالي البرد القارص، أو يخرجها في الشارع تحت المطر، أو يوقفها عن طعامٍ شهيٍ لذيذ، أو يمنعها عما تحب من المأكل والمشرب والملبس، عقاباً وتأديباً، ومحاسبةً وتعزيراً.

6. الخلوة وقفة مع النفس، وسؤالٌ للذات، وطريقة للنقد، وبابٌ للاستحسان، ووسيلةٌ للمحاكمة والعقاب والجزاء، وهي منهج الصالحين، وسلوك العارفين، ودرب الحكماء والعاملين، وتقليد الواعين المدركين، وعادة المبدعين والناجحين، وفطرة الأنبياء من قبله والمرسلين.

فنحن جميعًا نحتاج إلى فترات من الخلوة «العزلة» مع النفس، على الرغم من أننا ربما نختلف بشكل مزاجي في مقدار الخلوة التي نحتاجها فبعض الخلوة ضرورة قصوى حيث تمنحنا الوقت لاستكشاف ومعرفة أنفسنا وإنها النقطة المقابلة والضرورية للعلاقة الحميمة مع النفس، ما يسمح لنا بالحصول على الذات الجديرة بالمشاركة كما تمنحنا الفرصة لاستعادة المنظور والتجديد لتحديات الحياة وإنها تسمح لنا بالعودة «مرة أخرى» إلى موقع قيادة الحياة، بدلاً من جعل الآخرين يديرونها فالخلوة تعيد الجسد والعقل والوحدة تستنزفها. واختتم مقالي بشعر نسب إلى الإمام الحسين في مناجاة الله وهو يجسد أفضل الخلوات النفسية وهي الخلوة بالنفس مع الله:

”تركت الخلق طرا في هواك
وأيتمت العيال لكي أراك

فلو قطعتني بالسيوف إربا
لما مال الفؤاد إلى سواك“