آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 5:35 م

أينَ يختفي الأدباء؟

زينب البحراني *

يبزغونَ نجومًا مع إصدارهم الأوَّل، أو يتألَّق حضورهم المُلفِت في نصوصهم المنشورةُ هنا وهناك زمنًا قصيرًا بمقياس العُمر الأدبي، ثم لا يعودُ لكلماتهم صوت؛ وتغدو أسماءهم مثل صدىً بعيدٍ واهنٍ في ذاكرة من تعلَّقت أرواحهم بما قدَّموه في فترةٍ صارت غُبارًا بددتهُ رياح النسيان.. أينَ تختفي تلك الأصوات الأدبية الجديدة التي كانت مُفعمةً بحماسة البدايات؟ ما العوامل التي وَأَدَتها وسَلبت نصيبها من أكسجين البقاء على قيد الحياة فوق كوكب الإبداع؟ ما الأسباب التي تجعل الصمود على مسرح هذا المجال أقرب إلى مُعجزة لا يقوى عليها إلا النُّدرة وِفق مقاييس وظروف هذا الزمن بمتغيراته المُتسارعة؟

النظر إلى عالم الكُتَّاب والأُدباء من الخارج لا يُشبه العيش فيه، من الخارج يبدو الأمر مُريحًا، لا يتطلب أكثر من الجلوس في زاويةٍ في مكانٍ شاعري مع قلم وحُزمة أوراق أو دفترٍ أنيق وكوبٍ من القهوة أو الشوكولا الساخنة ذات الرائحة المُغرية، وما أن تمتلئ سطور الأوراق بحبر أفكارك حتى تتهافت الصحف ودور النشر والإذاعة والتلفاز ومُختلف وسائل الإعلام لإطلاقها حول العالم، وتنهال عليك اللقاءات، والحوارات، والمُكافآت، ومُختلف صور التقدير الأدبي والمادي والمعنوي من كُل حدبٍ وصوب، لكن ما أن يعيش الكاتب أو الأديبُ داخل الحكاية على أرض واقعه حتى يكتشف أن تلك الصور في مُخيلته ليست سوى أضغاث أوهام! وأن اكتشاف الناس وجوده وسماعهم باسمه يتطلب مُجهودًا آخر أكبر من التفكير وصبِّ أفكاره بلُغةٍ راقية على الورق، وإن كان الأمر في الماضي على قدرٍ من الصعوبة؛ فهو اليوم أصعب مع التهاء الجماهير بأجهزة رقميَّة برَّاقة تحتضنها أصابعهم مُعظم ساعات النهار. إنها معركةٌ يكادُ يستحيل أن ينتصر فيها قلم الكاتب ما دام يُحارب بمُفرده.

لا مجال لحصر كل الأسباب التي تغتال الوجود الإبداعي للكاتب أو المؤلف على الساحة الأدبية، لكن أربعة منها قد تكون الأبرز في هذه المرحلة الزمنية؛ الأول: استنفاد الوقت والطاقة في سبيل لُقمة العيش من خلال العمل في مجالات لا علاقة لها بهذا الإبداع، والثاني: عدم الالتفات لوجوده وكأنه لم يكُن!، الثالث: النقد الهدَّام والتحطيم المُستمر، الرابع: هبوط ذائقة ومستوى شريحة واسعة من الجماهير خلال الأعوام الأخيرة بسبب فوضى الثرثرة الرقميَّة.

أوَّل صدمة يواجهها المُبدع الذي يدخل هذا المجال شابًا هي استحالة التوفيق بين احتياجات روحه للقراءة والتعبير بالكتابة وبين احتياجات جسده للبقاء حيًا بشيء من الكرامة والتي تتطلب مالاً يُقايض به الطعام والشراب والملبَس والمسكن ويُسدد به الفواتير، والحصول على هذا المال يتطلب العمل في مجالٍ يخدم ”عامَّة الناس“ ليقبلوا دفعه مُقابل الخدمة، فالناس لن يبذلوا أموالهم مُقابل ثقافة إنسان، أو موهبة إنسان، أو شاعرية إنسان، بل مُقابل ما يُقدم لهم منفعة شخصية تُحقق مصالحهم أولاً وأخيرًا، وأرباب العمل لا يدفعون فلسًا إلا إذا أخذوا أضعافه من طاقة ومجهود وتركيز ووقت الموظف مهما كانت طبيعة العمل، ما يجعل الموظف يعود آخر نهاره إلى مسكنِه مُرهقًا مُنهكًا، ويُنفق ما تبقى من وقته القليل عل التزامات حياته الشخصية والأُسرية، عاجزًا عن التفكير الحُر أو الإبداع.

أما الصدمةُ الثانية فهي التعامل مع ما ينشرهُ وكأنه لم يكُن! يصدُرُ الكتابُ فلا يقرأه أحد، يُنشرُ المقال فلا يرى سطوره أحد، تُرسلُ النصوص إلى هُنا وهناك فلا ينشرها أحد! الكتابة وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري، ولا تؤدي دورها إلا بتفاعل القارئ سواء كان من نُخبة المثقفين أو عامَّة الناس، وعدم تحرُّك تلك المياه الراكدة يملأ حامل القلم بيأسٍ عميق من جدوى هذا العناء ويدفعه لدفن قلمه إلى الأبد.

ثالث الصدمات هي النقد الهدام والتحطيم المُستمر، وهنا لا نعني النقد الأدبي النخبوي أو الأكاديمي لأن ظروف العصر الحديثة تكاد تكون ألغت جدوى هذا النقد خارج أروقة الجامعات؛ بل الهجوم ممن هب ودب، منتمين إلى الوسط الثقافي يجعلهم الحسد كارهين دخول من يعتبرونه مُنافسًا جديدًا في هذا المجال وغير مُنتمين، إذ ليست كُل الأرواح تملك القوة الكافية للصمود ومواجهة هذا التيار، لذا يؤثر البعض سلامهم النفسي ويختارون المُغادرة.

آخر الصدمات المُحبِطة لروح الأديب تضاؤل دور الكتاب والنص الأدبي كوسيلة لتثقيف الناس، وتسليتهم، وتوسعة مدى زوايا رؤاهم، بعد انفجار فقاعة الثرثرة الرقمية صوتًا وصورة عبر أجهزة الاتصال الإلكتروني الصغيرة، صار صبر الناس أقل، وأمزجتهم أكثر نزقًا، ما عاد لهم الجَلَد على قضاء ساعات في قراءة كتاب، وأحيانًا لا يتحملون دقائق لقراءة قصة قصيرة أو مقالٍ في صحيفة، وهذه النقلة الهائلة كفيلة بتسميم آمال وطموحات كل متحمس مبتدئ في عالم الكتابة، مادام مقطع مصوَّر لا يتجاوز دقيقتين لشخصٍ يبصق على الناس أو يشتمهم أو يكسر الصحون قادرًا على جمع ألف مُتابع؛ بينما لا تحظى قصيدة فصيحة أو قصة عظيمة بأكثر من مُتابعين أو ثلاثة كلهم من أهله المُقرَّبين.

كاتبة وقاصة سعودية - الدمام